العين الخضـراء
قصة محمود البدوى
كنت سعيدا بالسفر إلى دمشق .. وكنت أحلم بأشياء كثيرة .. ولكن حرارة الجو .. والعزلة المرة .. أفقدتنى أعصابى .
كانت الأيام الأولى ممتعة .. فقد انطلقت إلى بلودان .. وإلى الزبدانى .. وإلى الغوطة والربوة ..
ولكن عندما رجعت إلى دمشق تبخرت هذه الأحلام .. كنت أعانى رهقا من وطأة الحر ..
أوصتنى الزهراء الفتاة العاملة فى الفندق بأن أنتقل إلى رياض المدينة .. وأخرج إلى الغوطة ..
وسرت فى ساعة الغروب فى شارع بغداد .. متجها إلى منـزل السيد محيى الدين اللاذقى حاملا له رسالة شخصية من صديق ..
وكان السيد محيى الدين مولعا باقتناء المخطوطات النادرة .. ويحتفظ فى خزانته بمخطوط لا يقدر بثمن لرسالة الغفران .. وكنت أعد بحثا عن المعرى فى الموضوع .. فرأيت بمناسبة وجودى فى دمشق الاطلاع على هـذا المخطوط ..
وكان السيد محيى الدين يسكن فى جادة حلب وكنت قد اتصلت تليفونيا ببيته فى الصباح واتفقنا على هذا اللقاء ..
وقرعت بابه والشمس تتوارى وراء أشجار الحور والصفصاف المحيطة بالبناية ..
ودخلت من باب صغير مزخرف .. إلى باب آخر .. ثم توسطت ساحة البيت الرحبة .. وكانت الأزهار والورود والنباتات العطرية تتسلق سياج البيت .. وأرج الياسمين والقرنفل يعبقان الجو كله ..
وعندما جلست فى قاعة الضيوف بأثاثها ورياشها وزخارفهـا العربية الخالصة تصورت نفسى فى قصر " العظم " .
وكان البيت من طابقين وله ساحة واسعة تتوسطها نافورة يسبح فى حوضها سمك الصيد من كل الألوان .. ويدور "" بالفسقية " ممشى طويل مرصوف بالأحجار الملونة .. وفى نهايته تعريشة من شجر الكروم ..
وجلست فى القاعة الكبيرة المربعة أنظر من النافذة إلى الساحة .. وأتأمل ما حولى من طنافس فلم أكن أتصور قط أن الرجل فى مثل هذا الثراء .. كانت سجاجيد المخمل على الأرض.. وعلى المناضد صحاف صغيرة من الفضة ..وعلى الجدران صورة زيتية كبيرة للمسجد الأموى .. وقلعة حلب ..وتماثيل صغيرة من صنع الصين ولم أسمع حسا فى البيت كله .. ورحت أفكر .. ولكن الباب انفتح .. وظهر على عتبته رجل طويل حليق الذقن ذوشارب مفتول وعيناه سوداوان .. وكان متشحا بعباءة حريرية فضفاضة .. جعلت وجهه أكثر إشراقا .. لم يكن يقل عمره عن سبعين عاما يوما واحدا .
وجلس فى إشراق قبالة الباب على كرسى قديم مطعم بالصدف .
وكان فى مجلسه يبدو مهيبا .. ثم رحب .. وأخذ يتأمل الرسالة التى قدمتها له .. ويسأل عن صديقه فى القاهرة .. ويبدى استعداده عن طيب خاطر لتقديم كل معونة لى تساعدنى على هذا البحث .
وجاءت القهوة العربية .. حملها خادم يرتدى بدلة كاملة .. وصب لى فى الفنجال أكثر من مرة ..
وأخيرا نهضنا ثم اجتزنا رواقا وثلاث غرف تشبه غرف الضيوف أيضا .. وقاعة واسعة حيث يقوم مكتب كبير مطعم بالصدف .. وبجانبه كتب وضعت على الرفوف فى نظام بديع وكلها مجلدة بجلدات مذهبة أنيقة وبعضها من جلد السمك .
ورفع إلىّ نظره وقال .. وهو يخرج حزمة مفاتيح من جيبه .. ويضع مفتاحا منها فى إحدى الخزائن ..
ـ لقد جبت الآفاق وراء هذه المخطوطات .. ورأيت الكثير من الناس .. ولكنى لم أر أنبل ولا أكرم من العرب .. وكلما كان العربى خالصا لم يلوثه الأجنبى كان أكثر صفاء .. وأكثر شهامة وبطولة .. ولقد عشت فى مدريد سنة كاملة لأعثر على بعض هذه المخطوطات التى تراها .. ولم أكن أحس بأنى أعيش فى بلد غريب .. لأن الدم الذكى ما زال فى عروقهـم .. اجلس .. لحظة ..
وقدم لى المخطوط ..
ووجدته قيما ونادرا حقا وفيه زيادات كثيرة عن النسخ التى تحت يدى .. فاستأذنت السيد محيى الدين لأنسخ هذه الفقرات الزائدة .. ولم أحرجه بطلب حمل المخطوط إلى الفندق لأنه يخشى عليه من الضياع .. ورضيت بما أشار علىّ به من أن أجىء إلى مكتبته كلما سمح الوقت ، وأبدى استعداده لأن يرسل لى سيارته الخاصة فى كل صباح لتحملنى إلى بيته .. ولكنى رفضت عرض السيارة بشدة .
وقد هيأ لى الرجل الكريم كل امكانيات النسخ من المنظار الكبير .. والورق والأقلام .. والواح البللور ..
وعرفت أنه من كبار التجار فى دمشق وأنه أخذ يجمع هذه المخطوطات كهواية محببة إلى نفسه ويصرف عليها الكثير .. حتى أنه يسافر إلى جهات كثيرة ليعثر على مخطوط نادر ..
وكانت مكتبته تحفة حقا من حيث التنسيق والفخامة .. وقد وضعها الرجل جميعا تحت متناول يده ..
وقد اخترت فترة الصباح بعد الساعة العاشرة ولم أكن أمكث أكثر من ساعتين .. ثم انطلق بعد ذلك على هواى فى المدينة ..
وكان الجو حارا فى فترتى الصباح والمساء على السواء .. ولكننى فى بيت الرجل كنت أحس بالطراوة والراحة أكثر ، كانت الأزهار عنده مفروشة على طول الجدران ، كانت مساحة البيت الواسعة تحمـل إلىّ من خلال الأشجار التى تطوق البناية والتى تخفف من شدة الحرارة هواء لطيفا .. وكان الجـــو الشاعرى المحيط بالقاعة لايجعلنى أحس بالتعب ..
وكان الرجل يحيينى فى الفترة التى نشرب فيها القهوة .. ثم يستأذن ويمضى لشأنه .. وأحيانا يعتذر من على الباب ويتركنى لعملى .. وكان الخادم الذى يقدم لى القهوة .. هو نفسه الذى فتح لى الباب فى اليوم الأول ..ولم أر سواه فى البيت حتى تصورت أن السيد محيى الدين يعيش عزبا ..وهذا الخادم يرعى شئونه وحده .. وكنت أفكر فى أن أسأل الزهراء فتاة الفندق عنه .. ولكنى وجدتها مستغرقة فى عملها وتعنى بشئون غرفتى واعداد ملابسى وكيها أكثر من عنايتها بأى شىء يتعلق بأخبار الناس .. فلم أسألها .. ثم حدث فى الساعة الحادية عشرة من صباح يوم – وكنت أنظر إلى الساعة وأحصى ما كتبته – أن لمحت وأنا أرفع رأسى عن الكتاب واتجه ببصرى إلى الخارج فتاتين مبرقعتين .. تدخلان من وراء الكنة بعد أن اجتازتا الساحة ..
ورأيت احداهما .. قبل أن تتوارى عن بصرى .. تدير رأسها الى ناحيتى .. ورأيت بياض العاج فى المعصم العارى .. ولكننى لم أر الوجه قط .. وكانت أطول من رفيقتها وأكثر نحافة ..
ورأيت هذه الفتاة نفسها تنظر إلىّ من وراءْ السجف .. وكان الوجه سافرا هذه المرة ولكن النافذة بدت " كبرقع " من " الدانتلا " وأن كنت قد رأيت العينين الساجيتين تبرقان من وراء الابعاد ..
ولقد عجبت لرجل ثرى ظل يعيش كما عاش أبوه وكما عاش جده دون أن يغير من نهجه فى الحياة . ويفرض الخمار على فتاتين فى سن العشرين ..
وعلى الرغم من هذا التحفظ فاننى شعرت بالبهجة .. كأن أنفاس الفتاة توشك أن تصل إلى خياشيمى .. وكنت أرى الفتاة المبرقعة فى سوق دمشق وفى شوارعها فلم يسترعنى الأمر كله كلية ..
وفى خلال خمسة أيام استطعت أن أرى وجه الفتاة وأرى وجه رفيقتها .. وكانت تابعة لها تلازمها ملازمة الظل .. ولم تكن أختها كما حزرت أول الأمر ..
ولمحت بسمة خفيفة على الثغر النضير .. وتحية عابرة من وراء الابعاد .. لإنسان من نفس الوطن ..
وكنت أراها عبر النافذة ومن وراء السجف .. ولعلها كانت تتأملنى فى صمت المعجب .. وأنا أشغل نفسى ببحث يقوم به العجائز ..
وكنت أقضى ساعتين كل يوم مع الورق والحبر .. ولكن أنفاس الفتاة من الناحية الأخرى من البناية كانت تعبق المكان .. وكان كل ما فى الغرفة التى أشتغل فيها يرتبط معى بعلاقات ود .. القلم والمحبرة وفنجال القهوة واللوحة المعلقة على الجدار .. والمخمل على الأرض ..
وكنت أعيش فى جو حالم .. ونسيت أننى فى بيت رجل غريب .. وكان الرجل مهذبا طيب القلب مطلعا على الأدب وعلوم الدين .. ولكن فيما عدا ذلك لم يكن أى شىء على الطلاق .. كان محدود الفـكر ..
وعندما كنا نتحدث عن الأقمار الصناعية والصواريخ .. كان يضحكنى بضحالة تفكيره ..
وفى سوق الحميدية رأيتها .. ووجدت معها رفيقتها فى دكان صغير يبيع العطور وزينة النساء .. جمعنا القدر .. دون أن نعد العدة .. وكنت أساوم الرجل صاحب الدكان فكففت عن المساومة لما دخلت خفيفة رشيقة ..
وسألتها عن عطر .. أهديه لقريبة لى .. فاختارت لى صنفا ممتازا دون أن تنطق بحرف .. وكذلك اختارت كل صنف ذكرته لها .. وهى متوردة الخدين وعلى شفتيها بسمة خفيفة ولكنها متألقة . وكانت تابعتها تقف فى ناحية كالصنم تماما .
ثم خرجت من المحل مبرقعة .. فسرت وراءها فى السوق .. وكانت بيضاء .. ناصعة البياض وترتدى رداءها السابق الذى عرفتها به ..
كانت رفيعة القوام جدا .. ممشوقة وتسير خفرة فى السوق حتى تصل إلى سيارتها الواقفة هناك .. فى الساحة الخارجية .. ياله من مشهد فاتن .. إن كل النظرات تلاحقها وتتحول اليها .. كانت فتنة النساء .. وكان البرقع لا يخفى جمال عينيها .. وجمال وجهها .. كأنه الغمام الخفيف عندما يخفى القمر .. ولكن النور .. يظل مطلا على الكون .. وكذلك كان وجهها فى الشارع ..
ثم لاحظت عليها الاضطراب .. لما أحست بأنى اتبعها .. فتركتها .. ممزق القلب .. ومضيت وحدى فى السوق ..
وكانت البهجة لما فيه من نساء جميلات .. اكثر من بهجة المحال التجارية ولكن كانت أمامى لحظـات لا أفكر فى أنثى سـواها أبد الآبدين ..
كان وجودها كافيا ليشغل تفكيرى .. إن حياتى تتحول الآن .. كنت أشعر بها فوقى وأنا جالس إلى المخطوط .. بجسمها وروحها .. وكنت مرتبطا بها برباط لا أستطيع فهمه .. وأقدر أن شيئا أزليـا سيجمعنا ..
وفكرت فى أن أفاتح والدها فى الأمر .. أعرض عليه زواجنا قبـل أن تتطور المسألة إلى حماقة ..
***
وكنا نتلاقى فى الممشى الخارجى من البيت دون أن نتبادل كلمة .. وكلما مرت من الرواق شممت رائحة الياسمين ..
وكنت أشاهد ها تودع والدها وهو خارج إلى نزهتـة اليومية بالسيارة ..
التقيت بها ذات يوم وجها لوجه فى الدهليز .. ولم يكن يفصل بيننا شبر واحد .. وحين نظرت إلىّ جمدت فى مكانها لحظة وعجبت لخجلها الشديد ..
***
وفى هذا اليوم جمعت أوراق البحث وسهرت فى الفندق لأفرغ منه .. وأهىء تفكيرى للحديث مع الرجل فى أمر زواجى من فتاته .. ولم أكن أفكر فى ثرائه وفقرى أبدا ..
وكان الحر شديدا فى داخـل الغرفة فجلست قرب النافذة .. وكانت النجوم تغطى السماء فأخذت أنظر اليها وإلى نهر بردى وكان ساكنا هادئا .. ولكنه يجرى كما تجرى الحياة وكانت أنوار النيون تلتمع على واجهات العمارات .. والمصابيح تتألق فى الشارع ، ومع هذه البهجة فى الطرق كانت حركة المرور قليلة .. وكان الحى ساكنا ..
وكنت مسترخيا بقميص قصير الأكمام .. وخف مفتوح .. وضغطت على الجرس .. فدخلت علىّ الزهراء .. فتاة الفندق .. وطلبت فنجالا من القهوة لأنشط للعمل .. فجاءت به سريعا ووقفت تلاحظنى وأنا أكتب .. وكنت قد حدثتها عن بحثى ..
فسألتنى :
ـ ولماذا اخترت المعرى ؟
ـ لأنه كان يشفق على الحيـوان .. وعـاش ليحفظ كرامة الإنسان ..
ـ أن هذا اختيار موفق .. ولكنك ترهق نفسك فى العمل .. وتحبس نفسك فى الغرفة .. بدلا من أن تنطلق إلى المدينة ..
ـ هل يمكن أن تساعدينى وتملى علىّ ساعة ..؟
ـ بكل سرور .. وأنا كلمـا رتبت لك الغرفة فكرت فى مساعدتك وخطى جميل .. على الأقل أحسن من خطك ..
ـ بالطبع لابد أن يكون جميلا مثلك ..؟
واحمر وجهها .. وضحكنا .. وحدثتها عن المخطوط .. الذى عنــد السيد محيى الدين .. وما فى بيته من رياش وتحف ..
فقالت:
ـ أنه إذا لم يفكر فى اقتناء الكتب كان سيقتنى السجاد .. أو التحف أو اللوحات .. او السيوف النادرة .. أو التماثيل ..
ـ لماذا ..؟
ـ الفراغ .. والثراء العريض ..
واستدارت فى خفة .. وحمـلت الصينية ثم .. وضعت سيجارة فى فمها ..
ـ هذه أول سيجارة أراها فى فم فتاة .. هنا ..
ـ أو لم ترها قط ..؟
ـ أبدا إنى أرى البرقع .. فى الشارع وفى سوق الحميدية .. فكيف أرى معه السيجارة ..
ـ أو يعجبك البرقع ..؟
ـ ليست المسألة مسألة اعجاب وإنما أنا لا أحب أن أرى سيجارة فى فم فتاة عربية أبدا ..
ـ إذا كان هذا يغضبك .. فلن أدخن بعد اليوم ..
والقت السيجارة وهى تبتسم فى دلال ..
وسألتها :
ـ هل تشتغلين فى هذا الفندق من مدة ..؟
ـ منذ سنة .. بعد وفاة والدى .. اضطررت لأن أعمل ..
ـ ولا يوجد أخ ..؟
ـ هناك أخ صغير .. وأم .. وأنا أعول الإثنين معا .. وأشعر بسعادة .. عندما أجد أخى الصغير يرتدى قميصا نظيفا وحلة جديدة .. وعندما أجد الليرة فى يدى لأشترى الدواء لأمى إذا مرضت ..
ـ هذا جميل يا زهراء .. هذا أجمل شىء فيك ..
ـ هل أنت مسرور حقا ..؟
ـ وكيف لا أسر من فتاة تكافح فى بسالة ليظل سقف البيت قائما .. بعد أن مات أبوها .. انك فتاة العصر .. الفتاة التى نريدها لحياتنا ..
وقالت باسمة :
ـ هل تضحك .. إذا قلت لك أنك وضعت خطأ فى جناح العائلات وأن السيد حموى كان يتصورك متـزوجا ..ولما عرف أنك أعزب لم يحاول أن يجرح شعورك ويغير لك الغرفة ..
ـ هذا من حظى لأراك ..
وظلت معى تساعدنى فى عملى حتى انقضت ساعات .. وكانت قد انتهت نوبتها فبقيت حتى فرغنا من عمل كبير ..
وشكرتها وأنا أفكر فى هدية لها قبل أن أبرح الفندق ..
***
ودعانى السيد محيى الدين إلى تناول العشاء فى بيته فى مساء الخميس وكنت قد فرغت من المخطوط ..فلبيت الدعوة .. لأشكره على معروفه .. ولأفاتحه فى موضوع الزواج من فتاته .. أو على الأقل أمهد الطريق لذلك .. والح علىّ فى أن يرسل السيارة إلى الفندق فى السـاعة السابعة مساء .. فقبلت ..
وجاءت السيارة .. وكان السائق مهذبا وقد طاف بكثير من البلدان فأخذ يحدثنى ـ وهو معجب ـ عن القاهرة وما فيها من جمال .. فانتهزت الفرصة .. وأخذت أسأله ـ وإن كان سؤالى لايليق ـ عن أسرة السيد محيى الدين وما عنده من بنين وبنات ..
ـ ليس عنده بنون ولابنات ..
ـ لم ينجب ..؟
ـ قط ..
وشعرت بدوار ..
ـ ومن هى السيدة الشابة .. التى أراهـا فى بيتـه لابسة البرقع دائما ..؟
ـ إنها زوجته ..
وشعرت بأن السيارة تدور بى فى مكان واحد .. وتصبب وجهى عرقا .. وأخفيت اضطرابى فصمت ومسحت عرقى وأنا أحس بقلبى يتمزق ..
وكانت يداى ترتجفان .. فغصت أكثر وأكثر فى المقعد وأنا أحس بالظلام يتسلل إلى المدينة قبل الأوان ..
وتعشيت مع الرجل وأنا أحس بغصة فى حلقى ..
***
وعادت بى سيارتة إلى الفندق ..
فصعدت إلى غرفتى على التو .. وجلست بكامل ملابسى معتمدا على راحتى وتركت باب الغرفة مفتوحا .. ونمت وأنا جالس على الكرسى ..
واستغرقت فى النعاس واستيقظت على صوت أقدام فى داخل الغرفة .. فلما فتحت عينى .. وجدت رجلا ضخما .. يقف على قيد ذراع واحـدة منى وينظر إلىّ وعيناه مفتوحتان ويتفوه بألفاظ لم أفهم معناها ..وبدا من حركته وكلامه أنه فى أشد حالات السكر ..
ولما أدركت حالته أخذت ألاطفه فقد خشيت أن يطبق على عنقى وهو فى حالة تشبه الجنون .. أو أن يقذفنى بالكرسى أو بالمنضدة .. أو أن يلقينى من الشرفة .. وكان يحدق فى وجهى ثم يحول بصره إلى الشرفة كأنه يقيس المسافة بينى وبينها ..
وكنت كلما حاولت التحرك من مكانى لأقترب من الباب ينظر إلىّ نظرة من نار .. فيشل يدى ويسمرنى فى مكانى ..
وظللت ساعة كاملة وأنا أحاوره لا أستطيع التحرك من مجلسى .. ظللت قابعا فى مكانى وكلما تحركت .. انقض علىّ فأعادنى إلى الكرسى بحركة من يده ..
وهو يقول :
ـ اجلس سأروى لك قصة ..
وأخذ يتحدث بانجليزية فيها لكنة لم أفهم منها سوى أن زوجته تخونه وقد غادرت الفندق منذ الصباح فى صحبة شاب ولم تعد حتى هذه الساعة ..
وكنت قد رأيت هذا الرجل فى جناح الفندق من قبل وبصحبته الزوجة التى يتحدث عنها ولم أعرهما التفاتة ولم أحاول معرفة جنسيته .. وكنت أراه دائما مخمورا وهناك أمكنة كثيرة يمكن أن يبتهج فيها السكير فلماذا بقى فى الفندق ..
وظللت أتحمل جنونه وألاطفه ..
ثم كان لابد من حدوث شىء فقد ضربنى أخيرا ضربة قوية .. ولعله تصور أننى أدافع عن زوجته .. أو أنه كان لابد أن يضرب شخصا ما ليستريح من عذابه ..
وارتميت على السرير .. دون وعى .. وعندما فتحت عينى وجدت الزهراء فتاة الفندق بجوارى ..
فنظرت اليها متعجبا .. وسألتها :
ـ هل أنت نائمة الليلة هنا ..؟
ـ أجل ..
ـ لماذا وأنت تروحين من الغروب ..؟
ـ لقد حدث ما جعلنى أظل فى الفندق .. مرضت سيدة فى الغـــرفة 52 .. فبقيـت بجوارها .. لأراك وأنت فى هذه الحالة ..
ـ كان يود قتلى ..
ـ ونجوت ..
ـ لأفتح عينى وأراك .. جميلة ومشرقة .. يا زهراء .. من غير سيجارة فى الفم الوردى ..
ـ ألا زلت تفكر فى هذا ..؟
ـ لقد نسيتها .. ونسيت أشياء أخرى كثيرة ..
واستدارت بخفة وسألتنى :
ـ هل رأيت العين الخضراء ..؟
ـ أبدا .. سمعت عنها ولكنى لم أرها بعد ..
ـ اذهب اليها غدا .. فى الأصائل .. لتريح أعصـابك .. وتنسى ما حدث ..
***
وفى الغد .. ركبت السيارة إلى العين الخضراء ..
وجلست هناك قرب العين .. على مقهى صغير على سيف جدول يتدفق بالمـاء العذب .. وكان الهواء رخيا منعشا .. والمروج تغطى التلال ..
وبعد الغروب أضيئت الأنوار .. وبدت القرية الصغيرة نائمة فى بطن الوادى .. وشعاع مصابيحها يبدو من بعيد كأنه مغشى بألوان من الزمرد المذاب ..
وشعرت بالسأم والوحدة رغم الجمال المحيط بى .. وكان كل من حــولى من الرواد يتعشى ويشـــــرب " البطحة " .
فطلبت زجاجة صغيرة وحملها الساقى على الفور مع ثلاثين طبقا صغيرا من المزة ..
وصببت الزجاجة فى الكأس وقبل أن أرفعها إلى شفتى .. لمحت سيارة تدور هناك .. وتنـزل منها سيدة مع ثلاث من صاحباتها .. وتقدمتهن وعبرت الجسر فى رشاقة .. إلى " الكازينو " .. واختارت لهن المكان وجلسن قرب الجدول .. ينصتن إلى خرير الماء ..
كانت جالسة على بعد خمسة أمتار منى .. وقد رفعت البرقع .. سفرت بكل جمالها وفتنتها ولكننى لم أكن أفكر فيها قط فى هذه الساعة لأننى عرفت أنها ملك لرجل آخر .. قد تكون فى نظره تحفة نادرة أو مخطوطا نادرا لايقدر بمال .. ولكنــه على أية حال استحوذ عليها وأصبحت تخصه وحده ..
وفى نظرة عابرة لمحتنى وأنا جالس وحدى وأمامى الكأس .. فاحمر وجهها قليلا وصمتت ثم عادت إلى الحديث مع صواحبها .. وفى هذه اللحظة حركت يدى سريعا وأفرغت الكأس فى الماء الجارى تحتى ..
***
وكنت وأنا أغادر المكان بعد ساعة أفكر فى الزهراء .. الفتاة الفقيرة .. الجالسة هناك فى انتظارى فى الفندق .. والتى لم تحدثنى قط عن عواطف قلبها .. ولكنها مكافحة تتدفق حيوية .. انها عين خضراء أخرى بالنسبة لى ستحول حياتى إلى مروج .. ومع مثلها أعيش وأكافح فى الحياة ..
================================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 2381961وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962
================================